حركة النهضة والسياق الثوري


د. عزالدّين عناية*


يشبه الفعلُ السياسي لحركة النهضة التونسية، منذ مشاركتها في السلطة عقب الثورة، حالَ السباحة في بحر لجّي يغشاه موج من فوقه موج؛ لكن ذلك لا يعني فقدان الضوابط التي تحكم العمل السياسي بين صنّاع سياستها ورجالاتها. فلئن بدت النظرية السياسية، التي تسير على هديها تلك الحركة، لم تتحدّد معالمها بعد، جراء أن الزاد قليل والزمن متسارع، فالنظرية، كما يلوح، تُخلَّق كل يوم، وتُحوَّر في كل حين، وهي مراجعة دؤوبة لا تفتأ ولا تلين، ولا ريب أنه توليد مرهق عسير في واقع مستنفَر لا مكان فيه للغلبة، التي أدمنها
العقل السياسي العربي دهرا.
فكما يلوح جليا للمتابع للواقع التونسي، أن مجتمع الخضراء في ظرفه التاريخي الراهن عوده غضّ، سياسيا ومعرفيا، ولكن رغم تلك الغضاضة يبدو أعسر من أن يبتلعه خطّ سياسي بعينه، مهما تراءى لأنصاره، غرورا أو يقينا، أنهم نسغ المجتمع وروحه. ففي حضارتنا غالبا ما تراءى لكثيرين من أتباع النحل البائدة ومن أفراد الأسر الحاكمة، أنهم الترجمة الصادقة لإرادة الله الحية في التاريخ، ليتبين لاحقا خلاف ذلك، فحقَّ قوله: "وذكّرهم بأيام الله" للاتّعاض والانتباه.
والشيء الذي يزيد من ريبتي أنني لا أعثر على قول ثقيل في خطاب حركة النهضة، ضمن هذا الهذيان السياسي المستفحل والمستحكم بالمشهد السياسي التونسي، بعد عقود من الصمت المطبق المفروض، بما يوحي أن النهضة، على غرار نظيراتها، توشك أن تغدو حركة متورّمة بأشباه العارفين والمتسيسين.
ذلك أنه عادة ما يتولّد المفكرون من رحم المحن، ولكن بلاوى النهضة التي دامت عقودا، وعلى خلاف ما كان مزمعا أن تفرز، جاءت بحشد غفير من البراغماتيين. جاء المولود من غير جنس ما هو مرجو، ما أبقى الحركة فقيرة في التنظير السياسي والتروّي الفكري، وما حافظ على الشيخ راشد فرسا يركض وحده، رغم وهن العظم منه.
بموجب ذلك تبقى حركة النهضة مهددة بالتميّع، هذا إن لم نقل بالتحلّل، جراء هشاشة النواة الفكرية التي باتت تقوم عليها واستنادها إلى مفهوم القطبية، المتمثل في الشيخ ومريده. ولذلك يبقى مرشّحا أن يتخطّفها معاوية جديد بعد زعيمها التاريخي -الشيخ راشد أمد الله في أنفاسه- فيذهب بها بعيدا عما رسمه رجالات الحركة في مطلع ظهورها وعما علّقته جماهير المستضعفين عليها.
فوفق تقديري، النهضة الأولى التي آمن بها أصحابها قولا وعملا، اندثرت. ذهب جلّ مؤسسيها وأبنائها الخلّص كلّ في سبيله. منهم من تقطّعت به السبل، ومنهم من مزّقه الطغيان شرّ ممزق، وقليل منهم جارى الموج ولم يلاطمه؛ وأما النهضة الثانية الوليدة مع اندلاع الثورة، وإن حملت اسم سابقتها، فإنها لم تحمل منها رسمها. إذ النهضة الوليدة ترسم ملامح وجهها مع كل فجر جديد، وبالفعل ازداد سهمها في بورصة السياسة التونسية، وهو مؤشر ربح ونجاح وليس مؤشر فلاح. لذلك تجد النهضة الثانية سوء فهم، وعلى حد سواء، من أنصارها القدامى ومن خصومها القدامى. يُخيّل للأوائل أنها تنكرت لهم ويذهب في ظن الأواخر أنها ما فتئت تناصبهم العداء نفسه.
فمن سمات النهضة الوليدة استثمارها الهائل في السياسي، وضمور الشغف الثقافي والمعرفي بين قادتها الجدد. إذ الرهان على الآني والحالي يبدو هاجسها الأبرز، لذلك يحتار النهضويون القدامى كيف غدت الحركة مسكونة بمغازلة البرجوازية وأرباب المال ومهووسة بالمنفعة والمصلحة. لكن أمام سمات التبرجز التي بدأت تطبع النهضة، بقيت على مكونها الفكري التقليدي –من حيث ولائها للمدرسة الإخوانية عموما- ولم يدب فيها تحول حداثي يبشّر باجتراح فكري مستجد لدى أنصارها في قادم الأيام. صحيح ان حركة النهضة يمكن أن تغري التونسي راهنا، فيجاريها، ولكن أشك أن تكون قادرة على المساهمة في صنع نهضة حضارية حقيقية في هذا البلد، ما بقيت على مكونها الفكري المتداعي.
فالذين صوتوا للنهضة في الانتخابات الأخيرة ما كان جلهم نهضويين، لا عقائديا ولا فكريا ولا سياسيا، ولكنه تيار التدين الجارف الذي وجد في النهضة المجرى الأيسر فانساق نحوها، باحثا عن تكفير لخطاياه الدينية والسياسية. فالإسلام الشعائري اليوم في تونس يعيش حالة مدّ، ولكن حالة المد تلك معروفة أسبابها، مجهولة مآلاتها.
وبشكل عام، عوّدنا إسلاميو العصر الحديث حين تهلّ دولتهم ترديد قوله تعالى: "اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير" ويتناسونه حين تدول دولتهم، وتلك محنة الحَرْفيين يستلهمون ظاهر الدين ويتغاضون عن سننه.
فضلٌ كبير يعود إلى الشيخ راشد في حاضر الإسلام السياسي في البلاد العربية، أنه أدمج مفهوم الديمقراطية وبيّئه بين عديد التيارات الإسلامية، حتى جعل كثيرين يقبلون به، وهو مفهوم سياسي بالأساس؛ لكن التجاوز الأكبر الذي ينتظر الإسلام السياسي في تونس، وفي غيرها من بلاد العرب، وهو القبول بالحداثة نهجا أيضا، فبتحقيق هذين الصنوين نقول إن الإسلام السياسي قد غادر براديغماته القديمة.
وفي الواقع التونسي ما يلوح بيّنا أنه لن يتهيأ للنهضة، أن تقبض على عمق الحراك الاجتماعي والديني في هذا البلد، ما بقيت رهينة براديغماتها الأولى المتشكلة مع الثمانينيات. فتونس قد دبّ فيها تحول كبير، والإسلاميون الذين تُعوّل عليهم الحركة قد شهدوا تبدلات عميقة لا عهد للنهضة بها. لذلك تبقى النهضة مدعوة وبإلحاح إلى فك الارتباط مع المكون الفكري والفقهي المتهالك، المتأتي من المدرسة الإخوانية عامة ومن المؤسسة الزيتونية التقليدية خاصة. وهو ما انعكست آثاره نفورا لدى الحداثي التونسي، الذي بات لا يرى فرقا جليا بين النهضة والسلفية الداخلية، أو بين النهضة وشتى حركات الإسلام السياسي في البلاد العربية. فلا ينبغي أن تضلّل نتائج الانتخابات الأخيرة، التي حصدت فيها النهضة نصيبا وافرا، فحتى الراهن الحالي تبدو الحركة جالبةً للشرائح المتدنّية التكوين السياسي والثقافي وطاردةً للشرائح المتعلمة والمثقفة، التي تتطلع إلى منظور إسلامي تقدّمي في تناوله قضايا المجتمع وفي تعاطيه مع تحولات العالم. فذلك التحول الكبير لا عاصم للنهضة في خوض بحره اللجي إلا بالرهان على مقصد الحرية، وهو مقصد أثير في هذا الزمن العسير، كما عبر عنه مقول الخيام:
لو كان لي كالله في فلك يد لم أبق للأفلاك من آثار
وخلقت أفلاكا تدور مكانها وتسير حسب مشيئة الأحرار

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاهد أجمل باقة صور لمنطقة قصر غيلان

مخيم كشفي دراسي بجهة قبلي

سراب الهجرة الى روما