حكاية الدّهان


حكاية الدّهان
يوم يشهد المرءُ كيف يخرج الحيّ من الميّت
د. عزالدّين عناية*


وُلد الروائي الإيطالي جيزوالدو بوفالينو عام 1920 في جزيرة صقلية. وفي عام 1943 أثناء أداء الخدمة العسكرية إبان الحرب العالمية الثانية وقع أسيرا، غير أنه تمكن من الفرار. في خريف عام 1944 أُصيب بوفالينو بمرض الدرن، الذي انتقل على إثره إلى مصحة "كونكا دورو" في مدينة باليرمو والتي صارت مسرحا لأحداث أول أعماله الروائية وأهمها على الإطلاق: "حكاية الدّهان" (حولية الاحتضار)، التي ترجمت أخيرا إلى العربية من قبل ناصر إسماعيل وراجعها الدكتور عزالدين عناية.
شرع جيزوالدو بوفالينو في كتابة روايته: "حكاية الدّهان" في عام 1950، ولم ينته منها إلا في السبعينيات، وواصل إدخال التعديلات عليها لتنشر في عام 1981. حازت الرواية إعجاب النقاد على الفور، وباتت حديث الوسط الأدبي في إيطاليا، واحتلت قائمة أكثر الروايات مبيعا، وتُرجمت إلى العديد من اللغات. عقب روايته تلك توالت أعمال جيزوالدو بوفالينو الروائية والشعرية، نذكر منها: "العسل المر" (ديوان شعري) (1982)، وروايات "متحف الظلال" (1982) و"أراجيف الليل" (1988)، و"تومازو والمصور الفوتوغرافي الأعمى" (1996). وقد توفي بوفالينو في حادث سيارة مفجع في عام 1996.
تشير كلمة "الدّهان" في عنوان الرواية إلى اعتقاد خرافي شاع في إيطاليا خلال القرن السابع عشر، أثناء اجتياح وباء الطاعون وحصده ألوف الأرواح، بأن ثمة أرواحا شريرة تتلبّس بعض الأشخاص فيقومون بنشر الوباء عبر دهنهم لأبواب المنازل وللجدران ولأي شيء يقع في طريقهم بمادة صفراء دنسة. وكان تعساء الحظ الذين يقعون ضحية لذلك الاتهام المشؤوم يتعرضون للملاحقة والقتل مثلهم مثل السحرة والمشعوذين. وكما أشرنا سلفا، فقد استلهم الكاتب رواية من فترة احتجازه في مصحة "كونكا دورو" لعلاجه من داء الدرن القاتل في تلك الفترة، لذا تعدّ بعض أجزائها بمثابة سيرة ذاتيه له. وتدور الأحداث في عام 1946، وهي تتناول قصة شاب نجا من ويلات الحرب العالمية الثانية ليجد نفسه يصارع حربا وموتا آخرَين. تتشابك علاقات الشاب في المصحة مع المرضى الآخرين المحتضرين، ولا سيما مع طبيبه الغزير الثقافة والمتقلب الأطوار، ويرتبط بقصة غرامية مع إحدى المريضات ذات ماض غامض. ويأخذ الكاتب بأيدينا لنعايش كيفية مواجهة مجموعة من المرضى، لكل منهم طبيعته المتفردة، موتهم المحتوم. وعلى عكس الآخرين ينجو البطل من الداء المميت ليعود إلى الحياة مجددا مشبعا بتجربة الموت وبتأملاته لا يدري إن كانت نجاته تلك هي نعمة أو نقمة، أهي عودة إلى الوطن أو رحلة إلى المنفى. غير أنه مع مرور الزمن يدرك أن القدر قد اختاره شاهدا وشهيدا على تلك الأحداث.
يتولى الشاب المريض بطل الرواية مهمة سرد أحداث تلك التجربة المريرة لرفقائه الآخرين ولحبيبته المحكوم عليهم سويا بالموت. يستغرق الكاتب بحساسية مرهفة وبكلمات أقرب إلى مشرط الجراح في سبر أغوار أعماق الشخصيات، ولا سيما شخصية السارد، فيرصد تحولاته النفسية الدقيقة لحظة بلحظة يجعلها تقترب أحيانا من الرواية السيكولوجية. وبمجرد أن يبزغ بصيص أمل في الشفاء والخلاص داخل الفتى الثرثار الماكر المتشكك في كل شيء، الذي أدى به يأسه وموته المحتوم إلى الاندفاع نحو التمتع بملذات الحياة قدر ما يستطيع، حتى تتبدل طبيعته الجامحة فتنزع نحو التأمل العميق في هبة النجاة من الموت التي تبدو له في الوقت نفسه وعلى غير المتوقع خيانة لرفقائه الذين لم يحظوا بمصير مماثل.
تتناول الرواية ثنائيات الحياة والموت، وبرغم انتصار الموت في الغالب الأعم لكن الحياة لا تعدم الحيلة لتظل حاضرة إلى النهاية. ويختصر بوفالينو فكرته هذه في جملة غاية في العمق والرقة: "إن الموت حطّاب ولكن الغابة خالدة". وتلقي الرواية برقّة وبقسوة الضوء على تجربة المرض، التي ترمز إلى حالة وجودية وإلى عدو خيالي يداهم الإنسان من حيث لا يحتسب. ورغم ما تنطوي عليه الرواية من شجن وحزن، فإن الرغبة شديدة في التشبث بالحياة والدفاع عنها بأي ثمن. تظلّ تتوهّج فيها وتتسلّل بين السطور روح ساخرة متهكمة تجعل القارئ معلقا دوما بين الشعور بالحزن والشفقة على مصير المرضى، والدهشة والسرور لطريقتهم في تقبل تلك النهاية وانتظارها.
يضعنا الكاتب أمام بعض الإشكاليات الفلسفية ولا سيما تلك التي تتعلق بالبحث عن اليقين والحقيقة. فالبطل لا يقدر على إنكار وجود قوة أعلى تتحكم في الكون، وتنظم أموره، وتدرك أسراره ومصائره، ولذا فثمة دعوة ضمنية للبحث عن هذا الموجود الظاهر الباطن.
وقد تباينت آراء النقاد حول التيار الذي يمكن أن يُنسب إليه هذا العمل لما يحفل به من عناصر وخصائص متباينة تجعل منه نصا عابرا للعصور وللمدارس الأدبية. فالبعض يرى أن الرواية تميل إلى تيار الواقعية الجديدة، أو تلك التي أعقبت انتفاضة عام 1968، لواقعية أحداثها وأماكنها وشخصياتها، علاوة على ارتباطها بالسيرة الذاتية لكاتبها. بينما يصنفها آخرون كرواية خيالية نثرية لأسلوبها الفني الشديد الإتقان وللصنعة الجميلة والراقية للغتها وللصور المجازية التي لا تكاد تخلو صفحة منها. غير أن الشيء المؤكد هو نجاح الكاتب بشكل واضح في دمج كل تلك العناصر في عمل روائي واحد يمتزج فيه الرمز بالواقع والحقيقة بالخيال والماضي بالحاضر في صياغة سردية وروائية محكمة ومتدفقة.
وقد أفصح الكاتب عن أن فكرة الرواية قد خطرت له عقب قراءته لقصيدة مترجمة للشاعر العربي الصقلي المولد بن ظَفَر الصقلي (1104-1170م). ويُعدُّ جيزوالدو بوفالينو أحد أكثر الكتاب الإيطاليين في عقدي الثمانينيات والتسعينيات تمكنا من أدواته اللغوية، وأبرعهم مقدرة على التعبير والنسج بالحروف وبالكلمات مشاهد وصورا بلاغية مبهرة.
تُعدُّ رواية "حكاية الدّهان" بلا شك إحدى أهم الروايات في الأدب الإيطالي المعاصر التي أفلحت في الخروج عن إطارها الزمني والمكاني، لتصبح عملا أدبيا إنسانيا يحمل رسالة لكل زمان وجيل.
مترجم الرواية ناصر إسماعيل باحث في جامعة جنوة الإيطالية، من أعماله المترجمة إلى العربية: "الفكر الجمهوري" لماوريتسيو فيرولي و"كنّا نخطو على الأرض بخفّة" لسيرجيو اتسيني. وأما مراجع الرواية فهو عزالدين عناية، أستاذ تونسي إيطالي بجامعة روما، يشرف لفائدة "مشروع كلمة" الإماراتي على قسم الترجمة من الإيطالية. سبق له وأن نقل ديوان "المرائي والمراقي" للشاعر محمد الخالدي إلى الإيطالية، وترجم "أنطولوجيا الشعر الإيطالي" إلى العربية.

حكاية الدّهان (حولية الاحتضار)
تأليف: جيزوالدو بوفالينو
ترجمة: ناصر إسماعيل
مراجعة: د. عزالدين عناية
الناشر: "مشروع كلمة"  أبوظبي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاهد أجمل باقة صور لمنطقة قصر غيلان

مخيم كشفي دراسي بجهة قبلي

سراب الهجرة الى روما