الثقافة والسياسة في تونس



بقلم الدكتور : عزالدين عناية *
ثمة رأي شائع عند التطرّق بالحديث عن الثورة التونسية، وأجزم أنه خاطئ، مفاده أن الثورة اندلعت بدون قيادة، وبدون سياسة، وبدون ثقافة... الواقع أن حالة البدون أو حالة الخواء لا تولّد إلا السكون. لذلك تبدو سوسيولوجيا الثقافة مدعوة بإلحاح لإخراج الحدث الثوري من حيز التبسيط والابتذال والتسطيح للإجابة عن سؤال: من أين تدفّقت الثورة وأيّ جداول غذّتها؟

***
أذكر اليوم الذي خابرتني فيه الزميلة الإيطالية إيزابيلا كاميرا دافليتو وهي خاسئة حسيرة، على إثر زيارتها للملحق الثقافي في قنصليتنا العتيدة في روما، بعد أن كانت تظن أنها ستزفّ إليه بشارة سارة بترجمة رواية "دار الباشا" للكاتب التونسي حسن نصر. لم يعبأ بها أحد لا الملحق، ولا القنصل، ولا جميع المخبرين، ممن كانت تعج بهم القنصلية حينها. من يومها شرّقت كبيرة المترجمين الإيطاليين بعد أن همّت أن تُغرّب. وتأكّد لديها أن تونس قد تحولت إلى مستنقع آسن. غير أنها بعد الثورة عاودها الحنين إلى تونس، فما فتئ الشابّي يغويها بالترجمة. من هذا الباب حريّ أن نمتن علاقات تونس الجديدة بالنافذين في مجال الفكر والأدب والترجمة في العالم، إن كنا نريد خيرا لثقافتنا.
***
كثير من الكتّاب العرب والتونسيين ألحوا عليّ لترجمة أعمالهم إلى الإيطالية، أو التوسّط لتزكيتها لدى من يعمل في المجال في إيطاليا، إلى درجة الاستجداء الفاضح الذي لا يليق بالمبدع. في الحقيقة أنا لا أترجم إلاّ لمن كنت على يقين أنه زهد في الدنيا والآخرة، ولذلك سبق لي أن عكفت على ترجمة "المرائي والمراقي" للشاعر التونسي محمّد الخالدي وغيره. فقد رأيت أن الرجل نطق بالشهادة حين جحدها كثيرون، "وقال لي: سيُحرقُ المصْحفُ في رابعةِ النّهار/ويفْجُر الملوك في الكبار والصغارِ
.
كما أني لا أزكّي نصّا لينقل إلى الإيطالية إلا متى رأيت فيه ألقا يليق بتمثيله فكرنا أو شعرنا أو أدبنا... فكيف أروّج لنصوص خدم أصحابها السلطان السابق أو السلطان الأسبق، والحال أن هناك ملْح الثورة، شعراء وكتاب ثوريون قبل الثورة. فمن المعيب أن يصير الأوائل أواخر والأواخر أوائل.
***
لم أستح يوما لأني تونسي مثلما استحيت يوم جاءني طلاب إيطاليون من كلية الدراسات الشرقية في روما ليرووا لي عن إقامتهم صيفا في بلدي. همسوا: قصدنا تونس لتعلّم العربية فتعلّمنا الفرنسية! وجلتُ من هول الفضيحة. إذ جلّ من ينزل بتونس للدراسة يكنّ احتراما لمعهد بورقيبة للغات الحية ويثني على تلك المؤسسة العتيدة. لكن السواد الأعظم منهم يحتقر الشارع التونسي لأنّ فيه تلوّث لغوي مشين، حتى ليهزأ المستعربون الإيطاليون من التونسيين قائلين، نقول لهم بعربية فصيحة: عمتم صباحا، فيردّون بروميّ الكلام "بُونْجُور".
***
لم تتسيّس الثقافة في البلاد العربية مثلما تسيّست في تونس. أُلصقت برموزها النعوت المغرضة وغاب التقييم الحقيقي للنصوص واستعيض عنه بحكم إيديولوجي، أو سياسي، أو ما شابه ذلك. قال لي الروائي التونسي الحبيب السالمي حين التقينا في روما: في تونس جوائز وملتقيات وأعمال على قدر عقول أهلها. في ظل ذلك الارتباك اصطنع النظام أوثانه، التي توهّم في تصديرها خارجا أن تلاقي قبولا حسنا. لذا أنصح بالاستئناس بخبراء الذائقة الأجنبية قبل خوض غمار التصدير حتى لا تولد المشاريع ميّتة.
***
في السياسة يمكن أن يخادع المرء ولا يفطن به الناس، ولكن في الثقافة، مثل النبوة، حين يخادع المرء سرعان ما يُفضح أمره. هذا التشخيص ينطبق على كثير من مدّعي الثقافة قبل الثورة. ففي ما مضى أغوى النظام الغارب كثيرا من العاملين في الحقل بالانضمام إلى جوقة كلاب الحراسة، ومن أبى زُجّ به في عالم التهميش والعزل قهرا وعنوة، ليكون في زمرة السائحين الهائمين. أذكر كلمة للصديق الروائي حسن بن عثمان، عشية الثورة: أن النظام جرّ الجميع إلى المستنقع، تورّط وورّط معه معشر المثقفين، حتى إذا لُعن لُعنوا وإذا سُبّ غضبوا له. الحمد لله أن بدأت تغرب شمس مثقفي السلطة...
***
يسألني كثير من الباحثين والدّارسين الإيطاليين عن الفكر التونسي المتوراي خلف الثورة؟ فأجيب كان شفافا ولا يزال أهله مهمَّشين أمثال: أبو يعرب المرزوقي، محمود الذوادي، راشد الغنوشي، المنصف المرزوقي، صلاح الدين الجورشي، أبوبكر العيادي، البحري العرفاوي، محمد الخالدي، المنصف الوهايبي، حميدة النيفر، عادل بلكحلة، المنصف وناس، وغيرهم كثير... هؤلاء أنبياء الثورة. ولكن في تونس ثمة تعامل مع المثقفين، قبل الثورة وبعدها، بمثابة خراف بيت إسرائيل الضالة.



*       أستاذ تونسي في جامعة لاسابيينسا في روما

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شاهد أجمل باقة صور لمنطقة قصر غيلان

مخيم كشفي دراسي بجهة قبلي

سراب الهجرة الى روما